بقلم عاشق لغة الضاد محمد نور مزكي بن عطاء الله
بادئ ذي بدء, أريد أن ألقي الضوء على أننا اليوم نعيش في العصر الذي تقدمت فيه الحضارة الإنسانية المعاصرة. واضح إلى درجة البداهة إن تاريخنا العريق اعترفت أن الحضارة الإسلامية لها أثر بالغ في تلوين شتى الحضارات الإنسانية بهذه الكرة الأرضية, برهان ذلك هو ما شهدنا اليوم من تطورات هائلة و تقدمات كبيرة و تحولات سريعة في المجال العلمي و المعرفي لا تخلو من مشاركة و مساهمة علمية من علماء الإسلام و كل هذه الحضارات انتشرت و ازدهرت عن طريق اللغة العربية.
و قبل أن نشرع في البحث أكثر تعميقا عن موضوع كنا بصدد, من المستحسن أن أضع النقاط على حروفه حول تعريف الحضارة على سبيل الإجمال روما للاختصار. فالحضارة هي مجموعة المظاهر العلمية و الأدبية و الفنية و كذلك الاجتماعية الموجودة في المجتمع, و تعتمد الحضارات الإنسانية المختلفة على بعضها البعض, فكل حضارة جاءت متممة للحضارة التي قبلها. و تسهم هذه الحضارات في البناء الحضاري الإنساني للعالم بأكمله, و جاءت الحضارة الإسلامية و عملت على ازدهار هذا البناء الحضاري. بعد هذا التعريف البسيط ,نعلم أن الحضارة الإسلامية تتبوأ مكانها من الأهمية البالغة في ازدهار الحضارة الإنسانية بهذه المعمورة ,لأن الحضارة تأسست على اللغة- كما أشرت في الفقرة الأولى.
فاللغة -كما لا يكاد يخفى على كل فرد – تعد من أعظم الآلات التي يستخدمها الإنسان في تحقيق التعاون و الاتصال بأبناء جنسه. فاللغة هي أداة التفاهم و وسيلة التعبير بين طوائف المخلوقات. و لغة الإنسان هي العبارة التي يكشف بها المتكلم عن نفسه و يوضح بها مقصوده. علاوة على ذلك أن اللغة هي آية من آيات الله, كما قال البيان الإلهي : وَ مِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ و َالْأَرْضِ وَ اخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوَانِكُمْ, إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالَمِيْنَ ( الروم : 22 ). فاختلاف الألسنة هي اختلاف اللغات من عربية و عجمية و غيرها. و اللغة أيضا ليست آداة التخاطب و التفاهم بين أفراد الأمة فحسب بل هي وعاء ثقافتها و لسان حالها و إحدى المقومات الرئيسية التي تكون عقلية الأمة و فكرها و حضارتها و وسيلة التعايش والسبيل إلى التقدم و الازدهار. و اللغة أيضا أداة العلم والمعرفة , و باللغة يستطيع الإنسان نشر ثقافته و علومه و معارفه إلى العالم الواسع و نقل حضاراته من المحلية إلى العالمية. فالحضارات و الثقافات العريقة منذ أمد بعيد حتى الآن انتشرت و ازدهرت عن طريق اللغة.
ومن بين تلك اللغات هي العربية و مما لا يختلف فيه اثنان و لا ينطتح فيه عنزان أن اللغة العربية ذات مكانة سامية بين لغات العالم. علاوة على ذلك أنها أطول اللغات الحية عمرا و أقدمها عهدا. و اللغة العربية من أعرق اللغات ذات التاريخ الإنساني والحضاري . و يكفيها شرفا و خلودا على أنها لغة القرآن الكريم و حارسة التراث الإسلامي عبر الأجيال والقرون. و قد اختار الله جل و علا اللغة العربية من بين لغة العالم لتكون لغة كتابه المبين المنزل على رسوله الأمين لينذر به العالمين. بناء على قول الله تعالى : وَ إِنَّهُ لَتَنْزِيْلُ رَبِّ الْعَالَمِيْنَ-نَزَلَ بِهِ الرُّوْحِ الْأَمِيْنُ-عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُوْنَ مِنَ الْمُنْذِرِيْنَ- بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِيْنٍ ( الشعراء 193-195 ). و قد انتشرت اللغة العربية انتشارا واسعا تفوق اللغة العالمية الأخرى, مع انتشار الإسلام في العالم بأسره.
علاوة على ذلك أن اللغة العربية لغة عالمية. حيث ارتبطت بدين يزيد معتنقوه على خُمُسِ سكان العالم. و هي لغة العبادة و التوحيد و لغة الثقافة لهم. و هي أيضا لغة ارتبطت بتراث عربي إسلامي. أثرى الفكر العالمي في شتى مجالات الحياة. و فيها من السمات و الخصائص التي جعلتها عن جدارة لغة عالمية. فهي واسعة الانتشار, حيث تعد ثالث لغات العالم الحديث من حيث انتشارها و سعة مناطقها, و هي من اللغة المستخدمة في هيئة الأمم المتحدة.
جدير بالذكر أن الغة العربية جزء لا يتجزأ من الحضارة الإسلامية. فحينما ازدهرت الحضارة الإسلامية ازهرت أيضا اللغة العربية, و ذلك لأن الحضارة تأسست على اللغة. و اللغة أساس التفكير و التعبير و التدوين. و أثبت التاريخ أن أوربا في العصور الوسطى تتلاشى فيها الحضارة الرومانية. و سادت القارة الأروبية سحابة مظلمة داكنة من التأخر و الانحطاط. لتجد في القرن السادس عشر الميلادي حضارة إسلامية شامخة, لم تترك علما و لا فنا إلا أسهمت فيه بحظ وافر, و هرع الطلاب الأوروبيون إلى مراكز الحضارة الإسلامية, يترجمون ما استطاعوا ترجمته من مؤلفات المسلمين, و يحاكون ما أمكنهم محاكته من الفنون العربية.وهم يحاولون الخروج من عصوره المظلمة مستفيدين من النهضة الإسلامية في مختلف العلوم و الفنون. و هذا إنما غيض من فيض تأثير الحضارة الإسلامية العربية للحضارات الإنسانية بهذه المعمورة, لأن الحضارة الإسلامية مركبة و متعدد المجالات.
و مع انتشار العلوم الإسلامية و العربية اشتهرت الأسماء اللامعة في جميع الفنون , سواء في العلوم الإسلامية أو العربية أو الرياضيات أو الطب أو الاجتماع أو التاريخ. و إني أريد أن أذكر بعض الأفذاذ منهم, على سبيل المثال لا الحصر : الإمام الغزالي و كان له جهود مشكورة و مساع مشهودة بتأليف عشرات الكتب القيمة تعالج شتى الموضوعات. بداية من الفقه و أصوله و نهاية إلى التصوف. و من أشهرها كتاب إحياء علوم الدين شرح و تحليل في علم التصوف و غيره كثير. و بالتالي ابن سينا و ابن الخردزبة و ابن بطوطة و حنين بن إسحاق و غيرهم كثيرون.
فهؤلاء الجهابذة من علماء المسلمين سواء كانوا عربا أو عجما, كانوا يكتبون مؤلفاتهم القيمة باللغة العربية الفصحى, و كانوا قبل أن يكونوا علماء في تخصصاتهم بارعين في اللغة العربية, و كانت اللغة العربية هي وسيلة وحيدة لترويج علومهم و معارفهم و تفكيرهم و ابتكاراتهم و نتائج تجاربهم, إلى أن وصلوا إلى قمة الحضارة الإنسانية تفيد العلم و البشرية.
و في نهاية المطاف إن اللغة العربية لها قيمتها الحضارية منذ زمان طويل, شاهد ذلك إمكانتها على مسايرة التقدم و مجاراة ركب الحضارة الإنسانية بحكم مرونتها. و هذه القيمة الحضارية مع الأسف الشديد بدأت تنحط اليوم, و لكن فليعرف أن سبب الانحطاط ليس عائدا إلى اللغة العربية ذاتها و لكن من جراء تقصيرنا خصوصا و الجيل الجديد على وجه العموم لعدم المبالاة و الاهتمام الفائق بخدمة هذه اللغة. ثم إننا من خلال ما كتبنا في هذه الصفحات السابقة لم تكن نقصد بها مجرد التفاخر بالأمجاد, و إنما نقصد بذلك العودة إلى الجذور الأصلية من التاريخ لأخذ الدروس و العبر من ماضينا العريق حتى يتسنى لنا مواصلة السير على الدرب ونبني كما بنوا و نستمر في البناء ليرتفع ونرتفع معه إلى المستقبل أكثر إشراقا و إبراقا.
Comments